الأحد، 9 نوفمبر 2008

الصداع

استمتع بانقشاع غيمة الصداع من رأسي بعد ان ابتلعت قرصين من الدواء..أشعر بالضغط ينسحب ببطء من عروقي و كأنني سأذهب في حلم بعيد...تتمدد عروقي بعد انكماشها و تتوقف مطرقة الألم ، أتكون القراءة هي السبب؟ لقد مكثت يومين كاملين أقرأ لأحاول اللحاق بذلك الركب الذي نويت أن امتطيه...أتكون الكتابة هي العمل الوحيد المتم ..أم أنه سيضاف الي جملة أعمالي غير المكتملة!! حتى لوحاتي القديمة حين أنظر إليها الأن، أجدني لم أكمل أيا منها و أنا التي لم أظن يوما انني سأتوقف عن المسك بالفرشاة و كب الألوان في عبثية طفولتي، كم أشتاق لتلك الوقفة أمام اللوحة البيضاء لأبدأ مخاضاً عسيراً يولد فيه جزء من نفسي مرة ثانيةً....رائحة الزيت و الوسائط الطيارة تملأ أنفي بل و ملمس الألوان في أناملي المتسخة ..لازلت أحتفظ ببعض الملابس الملطخة بالألوان ...بل و أذكر كل بقعة من أي لوحة..أنفض عن رأسي بقايا الألم و أخرج لدفع اشتراك تعليم القيادة في المحافظة ...يقابلني موظف من هولاء الذين أشاهدهم في التلفاز و أسمعهم في المذياع "شوف مصلحتك يا سيد..سمعني سلامو عليكم!" ..لا يبتسم ..لا يتحدث ..لا ينظر حتى إلي وجه متحدثه ..بل يحدثه في أثناء انهماكه في الأعمال الورقية ..متجهم ..يكاد أن يلوح لنا بالعصا من خلف مكتبه و ينهال علينا بها ضرباً حتى لا نعاود التفكير في القيادة مرة أخري! أثناء انتظاري لدوري استرقت النظرات الي وجهه..برغم عبوسه ..فضحته ملامحه الطيبة و بشاشة لحيته القصيرة البيضاء ، تخيلت ما يمكن أن يجول بخاطره و هو يملأ الدوسيهات و الإستمارات لمئات المتقدمين المقبلين علي القيادة و امتلاك السيارات الجديدة التي كدست مدينته الحبيبة و التي طالما عرفت بهدوءها و خلوها من الزحام ..تخيلته بعد أن يودع كل الأموال حصيلة اليوم ليذهب ليستلم مرتبه الذي بالكاد يكفي حاجة أسرته هذا و إن كفاها، تخيلته و هو بوابة القيادة يجري وراء الحافلة كل صباح و يحشر وسط الركاب ليعاني المهانة اليومية في وسائل المواصلات برغم كبر سنه و شيخوخته. تخيلت كل تفاصيل حياته في دقائق، تخيلته والدي الغائب عني ...و كم أشتاق إلي وجوده معي الأن ...في هذه اللحظة ذاتها لأني أعلم جيداً أنه كان سيأتي معي بالتأكيد لو كان قريباً و ما كان ليتركني أواجه هذا التجهم ...
عدت لوجه الموظف الشيخ أراقب يديه وهي تلقي بالأوراق فوق المكتب ليستلمها صاحبها ..أنا لم أدخل الحجرة بعد، " متدخلي يا ماما مالك وقفة برة كده ليه؟" و بالرغم من أن كلمة "ماما" هذه يمكن أن يقوم عليها شجاري مع قائلها و فقداني لأعصابي و إفراز بنكرياسي لكمية كبيرة من الأدري نالين الكافية لتعكير دمي يوماً كاملاً أو يومان، وجدت نفسي أجيب " حاضر". الحجرة صغيرة جداً و بالكاد تكفي الرجلين المتقدمين علي في الدور وكنت كل هذا الوقت واقفة أمام الباب أنتظر بإحترامي دون أن أحشر في المكان والذي يسمح باحتكاكي الجسدي المتوقع مع الواقفين داخله و هذا أكثر ما يقززني في التعامل في أي مكان حكومي أو وسيلة مواصلة عامة، ألا يكفي مناداتك لي "يا ماما"
لم أدرك أبداً سر استخدام هذه الكلمة في مخاطبة النساء في الأماكن العامة أياً كان شكلهن أو عمرهن، أيظنون أنها نوع من أنواع الاحترام أو ما شابه؟ و لكنها ايست كذلك، ماذا و ان كانت المرأة المخاطبة عقيمة ... أنذكرها طوال الوقت بذلك طالما تسير بالطرقات و تحتك بالعالم؟ أنخاطب أي امرأةهكذا بأقدس و أنبل الأسماء و الخاص بأمهاتنا فقط..ابتسمت و أنا أفكر في رد أمي على هذا الرجل لو كانت في موقفي "أنا مش مامتك! متقوليش يا ماما! قول يا مدام !" يبدو أنني ورثت عنها نفس الشعور. أخذت منه ما يجب علي ملأه من الاستمارات و توجهت للخارج علني أجد مكاناً أستطيع أن أقف و أتم الملء " تعالي هنا يا ماما رايحة فين مالكراسي كتير أهيه!" يا ويلتي أين أجلس يا رجل؟ و يبدو أن أحد الرجلين شعر بإحراجي و تخبطي فقام من مجلسه و كأنه ذاهب ليقف جوار المكتب فجلست مكانه و شرعت أكتب و أملأ الخانات الاسم الكامل ، الميلاد، جهة الميلاد، الشهادة المطلوب إخراجها هاوي أو محترف.....ماذا تعني هاوي أو محترف؟ أأقود كهاوية في شوارع مصر المحروسة بجانب سائقي الأجرة المتعجرفين و الرجال الحانقين علي قيادة النساء بسبب حق أتنزعنه منهم عنوة و على غير إرادتهم فيتصيدوا لنا الخطأ و لا مانع من المعاكسة إن أمكن ذلك، تركت هذه الخانة حتي يتأتي لي أن أسال عن الفرق بين أن كون هاوية أو محترفة
و عندما فعلت حين جاء دوري " مفيش فرق" !! و شرع في ملء الأوراق كلها بخط يده، عشرة أوراق لكل منا، و تساءلت لماذا يملأ هذا الشيخ كل شيء بيديه و نحن في عصر الحكومة الالكترونية و لماذا ليس هناك مسودات مجهزة قبلاً حتي يتم عمله أفضل و أسرع و لا يشعر بالحنق علينا لأنه سيملأ لنا كل هذا بيده. شعرت بليونة الشيخ في الحديث بعد أن كان علي وشك ضربي بالعصا، لعله قرأ في وجهي قراءتي لوجهه.. لعله رأي في عيني ما رايته خلف وجهه المتهكم و تقززه من الحياة ..لعله أدرك أنني قد أكون ابنته يوماً و قد أفتح الله عليها و نوت القيادة! عدت الي منزلي لأواجه ألام رأسي من جديد ...إن وجه هذا الشيخ يأبي أن يترك رأسي و لا أدري السبب ..سأبتلع قرصين من الدواء مرة أخري حتي تزول صورته مع الصداع!

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.